"دولة حرب ورفاهية في آن واحد" ... دلالات مفهوم بوتين للعدالة الاجتماعية الجديدة

Russian President Vladimir Putin speaks at a meeting of the XII Congress of the Federation of Independent Trade Unions of Russia. -/Kremlin/dpa

(مع صورة من د.ب.أ)

واشنطن 19 نيسان/أبريل (د ب أ) - تجلّت فكرة جديدة في روسيا لمفهوم "العدالة" على مستوى الحياة الاجتماعية، في خطوة اعتبرها البعض دليلا على الاستمرارية المتوقعة للحرب في أوكرانيا.

فمع مرور الوقت، بات من الواضح أن الحرب الروسية التي توصف داخليا بـ "العملية العسكرية الخاصة" تندمج بسرعة في نسيج الحياة اليومية للمواطن الروسي، بل وتترجم إلى تأثيرات عميقة على أفراد المجتمع، حيث يصبح لزاما على الأفراد التكيّف مع واقع جديد يميل إلى أن يكون مسار الحياة اليومية فيه مرهونا بأحداث الحرب وتطوراتها.

ويقول الصحفي الروسي أندريه كوليسنيكوف، الخبير في السياسة الروسية، في تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعمل على وضع نموذجه الخاص لمجتمع عادل واقتصاد فعال، يزاوج بين التعبئة السياسية وتقليل العواطف، ويتناوب بين الحديث عن الحرب والسلام، ويقدم مساعدة هائلة لأولئك الذين يعملون "من أجل النصر".

وباستعارة المصطلحات التي صاغها الفيلسوف الألماني الأميركي هربرت ماركوز، فإن بوتين منخرط في آن واحد في بناء دولة حرب ودولة رفاهية. ووعده للروس هو أنه على مدى السنوات الست المقبلة، سيكون المستفيدون من سخاء نظامه هي تلك الشرائح من المجتمع المرتبطة مباشرة بالحرب في أوكرانيا. ومن المقرر استبعاد المعارضين للحرب من العقد الاجتماعي، وكذلك كبار دافعي الضرائب، الذين من المقرر أن يدفعوا أكثر في ظل النموذج الجديد.

واعتبر كوليسنيكوف أن هذا المفهوم الجديد للعدالة غير متوازن للغاية، لافتا إلى إن الانتقال إلى أن تحل ضريبة تدريجية محل الضريبة المباشرة الحالية في روسيا، كما أعلن بوتين في خطاب حديث، يدمر استقرار وتوقعات نظام الضرائب في روسيا. ومع ذلك، فإنه يوضح تماما أولويات الرئيس وليس الأولويات الاقتصادية.

ومن الناحية السياسية، يهتم بوتين بولاء شرائح محددة من السكان مثل أولئك الذين يعتمدون على الدولة، وأولئك الذين يقاتلون في الحرب، وأولئك الذين يشاركون في تصنيع ما يشار إليه مجازا باسم "السلع المعدنية تامة الصنع"، وأولئك المستعدين للاستفادة من حوافز الدولة لإنجاب المزيد من الأطفال، لتوفير المزيد من الجنود والمواطنين المعتمدين على الدولة.

ويرى كوليسنيكوف أن المشكلة هي أن شراء ولاء الملايين ليس أمرا زهيد التكلفة. فكل هذا السخاء سيتحمله العمال المنتجون وأصحاب الضرائب الكبار، أي بقايا الطبقة الوسطى، بينما يحصد المكاسب أولئك الذين "يعملون" على "إلحاق الهزيمة" بالغرب وسحق المجتمع المدني.

وقد يبحث الجانب الأول عن طرق لتجنب دفع الضرائب التي يعتبرونها غير عادلة ، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى تقليل تحصيل الضرائب. وفي الوقت نفسه، قد يجد المستفيدون من المساعدات أن توزيعاتها تُقابلها موجة تضخم بسبب الإنفاق العسكري والاجتماعي الهائل. وقد يصبح تحقيق التوازن في الميزانية صعبا، مع عواقب وخيمة على رفاهية قاعدة دعم بوتين.

وبالمثل، فإن عائدات النفط والغاز التي تعتمد عليها روسيا، وكذلك صادرات البلاد، معرضة للخطر. كما أن جبهة الواردات ليست وردية تماما، ولكن كجزء من سعيه نحو الاكتفاء الذاتي، فإن الكرملين مصمم على خفض الواردات بحيث يتم تصنيع أكبر قدر ممكن من المنتجات محليا.

ونتيجة لذلك، فمن المحتم أن تصبح روسيا أكثر اعتمادا على الصين. وهناك أيضا بعض الحقائق التي يجب أن تدركها النخبة الإدارية، التي نسيت أنه لا يمكن إبدال الواردات دون استيراد قطع الغيار والمكونات والبذور والأعلاف، وأن التحول إلى الإنتاج المدني ليس بالأمر الهين.

ويقول كوليسنيكوف إن قيام بوتين بتشكيل هذا النهج الجديد القائم على "العدالة" يعكس مدى توقع استمرار الحرب، لافتا إلى أن "العملية العسكرية الخاصة" هي في الواقع نمط حياة وهيكل اقتصادي مصمم للاكتفاء الذاتي، وتصنيع "السلع المعدنية"، وإعادة توزيع الملكية.

ويمكن حتى وصف ذلك بأنه نوع من الفكرة الوطنية. وتعكس خطة ولاية بوتين الرئاسية الخامسة بشكل غير إرادي مشاكل النظام الحالية، بدءا من الحاجة لشراء ولاء الشعب إلى العجز الوشيك في الميزانية.

ولم يول بوتين اهتماما يذكر لمجتمع الأعمال في البلاد مؤخرا. وخلال الحملة الرئاسية ، قدم خدمة كلامية لرجال الأعمال لخلق مظهر الحياة الطبيعية والتلميح إلى فرص التنمية السلمية في روسيا. ومنذ إعادة انتخابه، كان التنازل الوحيد لبوتين في هذا الصدد هو الاجتماع مع ألكسندر شوخين، رئيس الاتحاد الروسي للمصنعين ورجال الأعمال، وهي مجموعة الضغط الرائدة في مجال الأعمال.

ومع ذلك، يتوقع بوتين أن ينفق نسبة كبيرة من الأموال لشراء ولاء الأشخاص. ويقول كوليسنيكوف إن خطاب الكرملين لرواد الأعمال هو أنهم قد يكسبون المال دون خوف من الذهاب إلى السجن، بشرط أن يتقاسموا الغنائم مع النظام.

ويرى كوليسنيكوف أن هذا النموذج غير مستدام على المدى الطويل، لكنه يمكن أن يخدم النظام بشكل جيد على المدى القصير إلى المتوسط. وفي الوقت الحالي، يستطيع الكرملين الاعتماد على لامبالاة قسم كبير من المجتمع واستعداده للاعتماد على الحكومة. فقد وجد استطلاع جديد للرأي أجراه مركز أبحاث الرأي العام الروسي أن أكثر من نصف الروس (53%) يعتقدون أن الضرائب المرتفعة مقبولة ما دام الفقراء يتلقون مساعدات أكبر في هيئة خدمات مجانية في مجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والأمن.
والجدير بالذكر أن ثلث من شملهم الاستطلاع لم يؤيدوا الزيادات الضريبية بسبب الجودة المشكوك فيها في بعض الأحيان وإمكانية الوصول إلى الخدمات العامة. ومما لا يثير الدهشة أن أغنى الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع كانوا على الأرجح يفضلون فرض ضريبة ثابتة.

وقد يشعر دافعو الضرائب المسؤولون أنهم يستحقون معرفة كيفية استخدام الحكومة لضرائبهم. لكن من المستحيل بالنسبة لهم التأثير على عملية صنع القرار السياسي في غياب المؤسسات الديمقراطية العاملة، والمساءلة، وتداول المناصب العليا.

ويخلص كوليسنيكوف إلى أن معظم دافعي الضرائب إذن ليس لديهم خيار سوى السماح للحكومة بإنفاق ضرائبهم على الحرب وتلك الأجزاء من المجتمع المنخرطة فيها. وفي حين أن مثل هذا النموذج لا يمكن أن يستمر، يمكن لبوتين أن يطمئن إلى أنه مع بدء فترة ولايته الخامسة كرئيس، سيواجه الحد الأدنى من السخط.

© Deutsche Presse-Agentur GmbH